الجمعة، 11 مايو 2012

كهف لاسكو في فرنسا: وراء كل رسم حكاية

مسلمون كُثر حول العالم يقرءون كل جمعة سورة الكهف، ولكن أين يوجد الكهف الذي تحدثت عنه الآية الكريمة؟ لاأحد يعرف على وجه الدقة ولكن استوقفني جداً أن تحمل سورة بالقرآن اسم “سورة الكهف” للدلاله على أهميته.
الكهف هو المكان الذي كان الإنسان البدائي يأوي إليه قبل أن يتعلم البناء ويسكن المباني الحديثة من بيوت وقصور وعمارات شاهقة، فقد خلق المولى عز وجل لبني آدم كهوفاً يستترون فيها من أخطار الطبيعة فكانت ملجأهم الآمن، كما استخدم الإنسان الكهوف لتخزين المواد، وكملاجئ في أوقات الحرب.
وبمرو السنين ترك الإنسان الكهوف ومن ثم تحولت إلى مزارات سياحية يتوافد إليها الناس من كل صوب وحدب ليجدوا فيها متعه من نوعٍ مختلف، ويعيشون فيها مغامرة شيقة، يملأون أعينيهم بجمال وسحر الطبيعة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
الكهوف مليئة بالأسرار والكنوز الدفينة فهي متحف طبيعي شاهد على التاريخ فمن خلال الرسوم المنقوشة على الجدران يمكن رسم صورة للحياة في الماضي. ونقترب معاً من إحدى الروائع في عالم الكهوف المليء بالحكايات والمغامرات التي أثارت اهتمام عشاق السياحة والسفر، وأصبحت مصدر هام لإلهام الفنانين.
وفي أولى جولاتنا نسافر معاً إلى فرنسا حيث واحد من أشهر كهوف عصور ما قبل التاريخ، والذي يعود تاريخ الرسوم التي وجدت به إلى العصر الحجري القديم في حوالي 15 ألف سنة قبل الميلاد.
كهف لاسكو في فرنسا
يقع كهف لاسكو Lascaux بمحافظة دوردونيه في بيريجور Périg على الضفة اليسرى من نهر فيزير  Vézèr، ويُعد الكهف الذي يبلغ طوله 100 قدم تقريباً واحد من أهم الكهوف الأثرية الزاخرة بالصور والرسوم الجدارية والنقوش المختلفة الأكثر قدماً في العالم أجمع، وقد أسهم في إثراء تاريخ الفن وفي تأسيس علم آثار ما قبل التاريخ.

كهف لاسكو في فرنسا
داخل كهف لاسكو في فرنسا
اكتشف كهف لاسكو عام 1940 بالمصادفة على يد مجموعة من الأطفال، ولاكتشاف الكهف قصة بدأت أحداثها في 8 سبتمبر عام 1940، عندما كان الصبي مارسيل رافيدو يتجول مع مجموعة من أصدقائه في هضبة لاسكو، فلاحظ مارسيل أن كلبه “روبوت” قد اختفى،  وبينما هم يبحثون عنه سمعوا صوته يأتي من فتحة كهف، وعندما حاول مارسيل إنقاذ كلبه سقط في داخل الكهف المظلم، واستطاع بصعوبة إنقاذ الكلب، لكن مارسيل رافيدو عاد مع زملائه إلى الكهف ولكن في هذه المرة أحضرو معهم سراجاً وحبلاً، وبينما كانوا يتجولون في الكهف المظلم فوجئوا بثيران وخيول وغزلان تقفز من الظلمة، واكتشفوا أنها رسوم على جدار الكهف،  كما رأوا في مكان آخر من الكهف رسوم لغزلان كأنها تسبح في جدول وتظهر رؤسها فوق سطح الماء.
والمدخل الحالي لهذا الكهف مدخل أرضي بسبب انهيار السقف الحجري الجيري، ويتضمن القسم العلوي من هذا الكهف الصور الجدارية الجانبية الجميلة والثمينة.

داخل كهف لاسكو في فرنسا
مدخل أحد ممرات كهف لاسكو في فرنسا
فنون الأسلاف الأوائل
تعود صور كهف لاسكو ورسومه ونقوشه إلى العصر الحجري القديم الأعلى (المجدلاني القديم)، وقد حدد الكربون 14، وهو عنصر يُستخدم لتحديد عمر الحفريات، تاريـخ هذه الصور بين 15000- 13500 قبل الميلاد. وقد أكسبت تلك الأعمال الفنية منطقة لاسكو جروتو في جنوب غرب فرنسا لقب “مصلى سيستين ما قبل التاريخ”.
يتميز كهف لاسكو بكثرة رسومه الجدارية وجمال نقوشه الفنية ولاسيما الرسوم التي تغطي جوانب هذا الكهف، ورُسمت باستخدام مواد سوداء اللون مصنوعة من أكسيد المنجنيز ومواد حمراء اللون مصنوعة من أكسيد الحديد. وتعتبر مثل هذه الرسوم دليلاً على المواهب الفنية التي تمتع بها إنسان ما قبل التاريخ، كما أنها دليل على مستوى المعرفة العلمية التي كانت لديه.

صالة الثيران الكبيرة في كهف لاسكو، فرنسا
من فنون أجدادنا كما تظهر في صالة الثيران الكبيرة في كهف لاسكو
وتتضمن رسوم كهف لاسكو صور جدارية توجد في (بناء مستدير مقبب) تعرف باسم (قاعة الثيران الكبيرة)، وهناك صور جدارية في صالة تعرف باسم (صالة الصور)، وثمة نقوش ممسوحة، وهناك صورة لحيوان مبهم النوع أطلق عليه اسم (ليكورن) وهناك أكثر من أنثى حبلى كما في مجموعة (الخيول الصينية) ومجموعة الأبقار وفي أماكن مختلفة من نفس الكهف.
ومن مشاهد هذه الصور والرسوم الجدارية صورة ثور جريح يسحق رجلاً، وحصان جريح أصابته سهام بجراح، وثور ضخم، وخيول تعدو، وبقر وحشي ورسم لطائر غريب منتصب فوق عصا.

كهف لاسكو، فرنسا
تتضمن رسوم كهف لاسكو مجموعة كبيرة من الثيران والأبقار والخيول
وهناك، في لاسكو، لا نعثر إلاّ على رسم واحد يشير إلى الإنسان ويطالعنا في الطابق السفلي من المغارة، وهو يمثّل رجلاً عارياً مستلقياً على الأرض: رأسه رأس عصفور ويداه مفتوحتان، كل يد تحتوي على أربع أصابع، وأمامه ثور كبير طعنت أحشاؤه بسهام.
وقد عُثر أيضاً في كهف لاسكو على خريطة لسماء الليل يعود تاريخها إلى حقبة ما قبل التاريخ، وهو مايعكس اهتمام أسلافنا بعلم الفلك وربما كانت الكهوف أماكن لتصوير الفضاء الخارجي! وتظهر الخريطة ثور وإنسان كالطائر وطائر فوق عصا وتعرف هذه النجوم الثلاثة مجتمعة بمثلث الصيف، وتتميز بلمعانها الشديد في أواسط فصل الصيف في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، غير أن خريطة السماء التي عُثر عليها في الكهف، ليست الدليل الوحيد على اهتمام إنسان ما قبل التاريخ بالكواكب والنجوم، فعلى مقربة من مدخل مجمع كهوف لاسكو يوجد رسم بديع لثور، وتوجد فوق كتف هذا الثور ما يبدو على شكل خريطة للثريا، وهي مجموعة نجوم تدعى في بعض الأحيان بالأخوات السبع، ويوجد داخل الثور علامات سوداء ربما تكون رسوماً لنجوم أخرى كانت في تلك الناحية من السماء، وتوجد تلك المنطقة حالياً ضمن ما يسمى ببرج الثور، مما يؤكد أن معرفة الإنسان بهذه الجهة من الكون، تعود إلى آلاف السنين.

كهف لاسكو، فرنسا
واحد من رسوم الإنسان الأول في كهف لاسكو
ويُقدَّر عدد نقوش الكهف بأكثر من ثلاثمائة نقش على الجوانب، وقد عثر في الكهف مصادفة على أدوات أثرية مثل: المنقاش والمكشط والنصلة والسراج والصفائح الحجرية الجيرية. وقد ضمت منظمة اليونسكو الكهف في عام 1979 إلى مواقع التراث العالمي.
زيارة كهف لاسكو
افُتتح كهف لاسكو للزيارة بعد الحرب العالمية الثانية، أدى والإقبال الكبير عليه والذي وصل إلى 1200 زيارة في اليوم الواحد إلى تأثيرات سلبية على ألوان النقوش والرسوم بسبب التغيرات في مستوى الإضاءة ودورة الهواء في الكهف، الأمر الذي دفع السلطات الفرنسية إلى إغلاقه عام 1963 وتحديد عدد محدود جدا من الزوار كل أسبوع، وفيما بعد أقُيم في عام 1983 كهف مماثل يبعد 200 متر عن الكهف الأصلي ويحتوي على نسخ من الرسوم وصالة الثيران.

صورة لرحلة قديمة إلى كهف لاسكو في فرنسا
صورة لرحلة قديمة إلى كهف لاسكو في فرنسا
وابتداءً من عام 1998 بدأت أنواع من الفطريات تصيب رسوم الكهف بسبب تكييف الهواء والإضاءة القوية بجانب زيادة عدد الزوار، وهو ما حاول العلماء مكافحته بوسائل متعددة. وفي يناير من عام 2008 أغلقت السلطات الفرنسية الكهف لمدة ثلاثة أشهر حتى بالنسبة للعلماء، وسُمح بدخول شخص واحد لمدة عشرين دقيقة كل أسبوع لتفحص التأثيرات المناخية على طبيعة الكهف. وحالياً لا يُسمح بدخول كهف لاسكو سوى للعلماء للعمل داخل الكهف وذلك لأيامٍ معدودة كل شهر، ولا زالت تظهر بقع سوداء داكنة على رسوم الكهف بسبب بعض المبيدات المستخدمة في مكافحة العفن والفطريات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق