قد يكون لمصر قصب السبق فى مجال الإرث التاريخي والحضاري بما تحتويه من آثار تضرب بجذورها فى طفولة الزمن وبكورة نشوءه، ولكن أن تحتوى مصر تلك الطبيعة النادرة والجمال البكر، ذلك هو الفوز الكبير.
تعد مصر من أغنى بلدان العالم قاطبة بالآثار، بل لا يكاد يخلو ركن فى ذلك العالم الشاسع إلا وتحتله قطعة فنية مصرية أو على الأقل طافت به يوما فى المعارض الدولية، أما أن تحتوى مصر كهوفا بهذه الروعة فهو الجمال الدفين الذي تحتفظ به؛ فتحت تجاعيد الزمن تحتفظ مصر لنفسها بإكسير الشباب الدائم.
يعتبر كهف الجارة الذي يقع فى الصحراء الغربية المصرية أروع ما وقعت عليه عين إنسان فى منطقة إفريقيا عموماً والشمال منها خصوصاً، ويقع بالقرب من كثبان أبو محرق الرملية بالقرب من درب قديم للقوافل يربط واحة الفرافرة فى الصحراء الغربية بأسيوط فى صعيد مصر، واكُتشف كهف الجارة فى الرابع والعشرين من شهر ديسمبر عام 1873 على يد المكتشف الألمانى (جيرها رد رولفز) أثناء رحلته التي سجلها فى كتابه (ثلاثة أشهر فى الصحراء الليبية) والتي كان الهدف فيها هو الوصول إلى واحة (الكفرة الليبية)، وكان ذلك عندما قاده دليله فى الرحلة إلى مكان يدعى الجارة، وبه كهف يتميز بما يطلق عليه جيولوجياً رسوبيات الصواعد والهوابط.
ورغم انبهار رولفز ومجموعته بالكهف وجماله، وهو ما سجله رولفز فى كتابه عن رحلته المشهورة، إلا أن الكهف لم يلقى ساعتها الاهتمام الكافي من الباحثين أو الدارسين لمحاولة معرفة تاريخه أو على الأقل تفسير الرسوم الجرافيتية التي تعود للعصور الأولى للإنسان فى المنطقة.
وفى العام 1989 أعاد كارلو بيرجمان، أحد مغرمي الصحراء الجدد، اكتشاف الكهف محاولاً إلقاء الضوء على المخربشات البدائية التي تميز حوائطه و مدخله، وقد تم أول مسح أثرى على أسس علمية للرسوم الموجودة بالكهف فى العام 1990 على يد مجموعه من رائعة من المتخصصين فى هذا المجال من كولونيا وبرلين والقاهرة. وبداية من العام 1999 وحتى العام 2002 تمت دراسة الرسوم والزخارف بصورة مكثفة ضمن مشروع علمي متكامل.
كهف الجارة ذو أبعاد سحرية نشأ كنتيجة طبيعية للماء النقي ومناخ الصحراء الجاف خلال ملايين من السنين، وهو يخالف كل كهوف المنطقة فى تكويناته وشكل رسوبياته الرائعة، حيث تبدو الأشكال الرسوبية الهابطة والصاعدة أشبه ما تكون بشلالات مياه متجمدة، وهي نتيجة لملايين من الأمتار المكعبة من المياه الأرضية التي تسربت خلال رمال الصحراء منذ ملايين من السنين وخلقت هذا الكهف الارضى ثم جرى ترسيبها وتكثيفها بفعل الحرارة الشديدة. وتصل ارتفاعات التكوينات الرسوبية حسب وصف رولفز إلى ثلاثة أو أربعة أقدام.
تمثل الرسوم الجدارية في الكهف الأنشطة المعتادة لإنسان تلك المنطقة مثل الصيد واللعب، وترجع الرسوم إلى عصر الهولوسين الرطب؛ ففى ذلك الوقت سكن تلك المنطقة صيادون ومارسوا أيضا مرحلة جمع والتقاط الثمار، وتوحي الرسوم إن منطقة الجارة بما هي عليه الآن من جدب وعدم استعداد للحياة قد كانت يوما مأهولة بالسكان ومفعمة بالحياة.
ويقع مدخل الكهف على هيئة فتحة صغيرة فى مستوى سطح هضبة الحجر الجيري التي يقع بها الكهف تعطي انطباعاً للزائر بالهبوط فى حوض صغير من الحجر الجيري يؤدى إلى ممر صغير ضيق يشكل مهبطاً مليئاً بالرمال التي تزحف بفعل الرياح من خارج الكهف إلى داخله بسبب هبوط مستوى الكهف فى الداخل عن السطح فى الخارج.
وفي مدخل الكهف تطالعك إحدى الحجريات النابتة فى أرضية الكهف على هيئة صواعد والتي تجملها الرسوم الشهيرة أو المخربشات التي تزوي عاماً بعد آخر، ومن المدخل إلى ساحة الكهف الرئيسية والوحيدة والتي تغطي مسطحاً هائلاً من التجويف الصخري الملئ بالهوابط الحجرية الرائعة المنظر والبديعة والتي يرسلها الكهف من سقفه نزولاً حتى تلتحم بأرضيته. وتمثل الساحة الأساسية للكهف فى مجملها مسطحاً من 30 متراً مربعاً بارتفاع من خمسة إلى ستة أمتار.
ورغم أن الكهف يقع فى منطقة من الحجر الجيري إلا أن التحاليل الجيولوجية قد أثبتت أن رسوبيات الصواعد والهوابط تتكون فقط من الحجر الرملي، ما قد يلقى الضوء علميا على التاريخ الجيولوجي للمنطقة. ويُفضل عند زيارة كهف الجارة استخدام إنارة لرؤية التكوينات الرسوبية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق